الرباط – استلهم المؤلف البريطاني إيان فليمنغ فكرة شخصية “جيمس بوند” من تجربته العملية في جهاز المخابرات البريطانية، فغمره شغف بعالم التجسس وأسراره، ودفعه هذا الولع إلى كتابة رواية جاسوسية شيقة، بطلها عميل بريطاني يحمل اسم “جيمس بوند”، فلاقت القصة نجاحًا هائلًا بين الجماهير، فاستمر في كتابة سلسلة من المغامرات الشيقة إلى اليوم، واستوحى المؤلف اسم الشخصية من كتاب بعنوان “طيور جامايكا”، وقد تناوب على تجسيد دور “جيمس بوند” في السلسلة الرسمية سبعة ممثلين، كل منهم ترك بصمته الخاصة على الشخصية، إذ بدأ باري نيلسون بتقديم الدور عام 1954، ثم حمل شون كونري الشعلة بين أعوام 1962 و1967، وعاد لتجسيد الدور عامي 1971 و1983، وقدم جورج لازينبي الشخصية عام 1969 لمرة واحدة، قبل أن يأخذ روجر مور الدور بين 1973 و1985، ثم استلم تيموثي دالتون المهمة من 1987 حتى 1989، ليتبعه بيرس بروسنان من 1995 حتى 2002، وأخيرًا جاء دانييل كريغ عام 2006 ليستمر في تقديم الشخصية حتى اليوم.

وشهدت سلسلة “جيمس بوند” إنتاج العديد من الأفلام التي رسخت مكانة العميل السري الأشهر في عالم السينما، إذ بدأت الرحلة مع فيلم “دكتور نو”، ثم توالت المغامرات مع “من روسيا مع الحب” و”الإصبع الذهبي” و”كرة الرعد”، واستمرت الأفلام في تحقيق نجاح عالمي مع عناوين مثل “أنت فقط تعيش مرتين” و”في الخدمة السرية لجلالتها” و”الماس للأبد”، وطرحت السلسلة لاحقًا أفلامًا أيقونية مثل “عش ودعهم يموتون” و”الرجل ذو المسدس الذهبي” و”الجاسوس الذي أحبني”، حتى وصلت إلى إنتاجات حديثة كـ “كازينو رويال” و”كم من العزاء” و”سكايفول” و”لا وقت للموت”.

وبدأ إنتاج أفلام جيمس بوند بظهور أول أفلامها “دكتور نو” (1962)، عندما استطاعت شركة إيون للإنتاج تحقيق نجاح كبير رغم الميزانية المحدودة التي قدرت بـ 1.1 مليون دولار، فحقق الفيلم إيرادات تقدر بـ 59.5 مليون دولار، وكان هذا النجاح أساسًا لانطلاق السلسلة وتوسعها عبر السنين، ومع مرور الوقت توسعت السلسلة في مجال الإنتاج، فارتفعت الميزانيات لتتجاوز عشرات الملايين وصولًا إلى 250 مليون دولار في “لا وقت للموت” (2021)، مع تحقيق إيرادات هائلة، ثم تضاعف إنتاج إيون للإنتاج السينمائي وتطورت ميزانيات أفلامها بشكل تدريجي، عندما استمر تأثير نجاح أفلام مثل “السقوط من السماء” (2012) الذي حقق إيرادات قياسية تتجاوز مليار دولار، وهذه النجاحات المالية الضخمة تعكس قدرة السلسلة على استقطاب جمهور واسع عبر الأجيال.

وواجهت الأفلام المنتجة خارج شركة إيون للإنتاج تحديات كبرى في تحقيق نفس النجاح، ففيلم “كازينو رويال” (1967) مع ديفيد نيفن، الذي كان يعكس طابعًا هزليًا، لم يحقق النجاح المتوقع حيث جنى 44.4 مليون دولار فقط، كما أن تقييمه النقدي لم يتجاوز 27%، مما أظهر فشله الواضح مقارنة بأفلام السلسلة الرئيسية، لكن أثمرت محاولات أخرى، مثل فيلم “لا تقل أبدًا مرة أخرى” (1983)، عن نتائج أفضل نسبيًا مقارنة بسابقه، حيث حقق 160 مليون دولار مقابل ميزانية 36 مليون دولار، إلا أن تقييمه النقدي لم يتجاوز 60%، وهو ما جعله أدنى من أفلام إيون من حيث الأداء النقدي والمالي.

وتباينت الإيرادات بين الأفلام الكلاسيكية والحديثة، إذ أظهرت أفلام شون كونري، مثل “الإصبع الذهبي” (1964)، أداءً جيدًا مع إيرادات وصلت إلى 124.9 مليون دولار مقارنة بميزانية قدرها 3 ملايين دولار، وفي فترة روجر مور زادت الميزانيات بشكل تدريجي، لكن لم تشهد الإيرادات نفس القفزة، فحققت أفلامه أرقامًا أقل من المتوقع، كما في فيلم “الرجل ذو المسدس الذهبي” (1974).

وتغيرت الأمور مع بيرس بروسنان في التسعينيات، عندما ارتفعت الميزانيات، لكن لم تصل الإيرادات إلى المليار دولار، ومع ذلك كانت أفلام دانيال كريغ بداية لعهد جديد، إذ شهدت السلسلة ارتفاعًا غير مسبوق في الإيرادات، فأفلام مثل “كازينو رويال” (2006) و”السقوط من السماء” (2012) حققت نجاحًا تجاريًا مذهلًا بفضل التطوير في أسلوب الإخراج والإنتاج.

وأثبتت شركة إيون للإنتاج السينمائي قدرتها على الحفاظ على قوة السلسلة مع مرور الوقت، واستفادت من تطور تقنيات الإنتاج واهتمامها بتغيير أسلوب الإخراج بما يتناسب مع ذوق الجمهور المتغير، بينما فشلت الشركات الأخرى التي حاولت إنتاج أفلام بوند في تقديم منافسة حقيقية، وهو ما يبرز أهمية التحكم الكامل في حقوق السلسلة وتكامل الإنتاج لضمان النجاح.

لكن كيف بدأت الاستثمارات في الإنتاج؟

بدأت قصة جيمس بوند مع الإنتاجات التي خرجت عن إطار سلسلة أفلام إيون للإنتاج، وكان أبرزها عرض “كازينو رويال” التلفزيوني الذي أنتجته شبكة سي بي إس في 1954، عندما دفع المنتجون في تلك الفترة 1000 دولار لإيان فليمنغ مقابل حقوق تحويل روايته الأولى إلى مغامرة تلفزيونية مدتها ساعة واحدة، ورغم القيود الزمنية التي فرضت تقليص بعض التفاصيل، حافظت النسخة المقتبسة على جوهر الرواية من خلال شخصية بوند التي أداها الممثل باري نيلسون، وعُرضت في 21 أكتوبر/تشرين الاول 1954، وأسلوب العرض وميزانية الإنتاج المحدودة جعلا هذه النسخة تحافظ على بعض من سمات العنف التي تميزت بها الرواية الأصلية.

وتوالت الخطوات في تطور شخصية بوند عبر عقد من الزمن، إذ بدأ ألبرت آر. “كوبي” بروكولي مع زميله إرفينغ ألين في 1959 بالتفكير في تحويل روايات جيمس بوند إلى أفلام سينمائية، وفي 1961 وقع فليمنغ اتفاقًا مع المنتج هاري سالتزمان لبيع حقوق تحويل معظم روايات بوند إلى أفلام، مستثنيًا “كازينو رويال” التي كانت قد بيعت سابقًا.

وتوقع عشاق جيمس بوند منذ فترة طويلة أن يشاهدوا السلسلة الشهيرة تتحول إلى عمل تلفزيوني مثل “سيد الخواتم” وبعض الكلاسيكيات الأخرى التي تحولت إلى مسلسل، ولكن سرعان ما خابت آمالهم، عندما أكد منتجا السلسلة، باربرا بروكولي ومايكل جي ويلسون، أنهما قاوما طوال ستة عقود فكرة تحويل جيمس بوند إلى مسلسل، وهو ما يعكس التزامهما الدائم بنهج السلسلة السينمائي.

وضمنت شركة أمازون بعد استحواذها على شركة الإنتاج “إم جي إم” في عام 2022، أن يبقى الفيلم القادم في السلسلة “لا وقت للموت” كما هو مخطط له، وأوضح منتجو السلسلة أنهم لا يشعرون بالقلق بشأن مستقبل بوند، مشيرين إلى أنهم لن يتخلوا عن فلسفة صناعة الأفلام التي ظلت راسخة لديهم.

ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان هذا التحول سيفيد الشخصية أو يضر بها، في حين أن أمازون تسعى إلى استثمار الامتياز بشكل أكبر وأكثر توسعًا، فإن ذلك قد يتطلب تغييرات جوهرية في شخصية بوند أو في أسلوب تقديم مغامراته، ومع التخوفات الكبيرة من أن تؤدي هذه التغييرات إلى تقليل جاذبية بوند في نظر معجبيه المخلصين، يبقى السؤال عن كيفية موازنة الجوانب التجارية مع الحفاظ على الجوهر الفني لهذه الشخصية الفريدة في تاريخ السينما.