التخطي إلى المحتوى

الصالح سبورت :
الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان

الصالح سبورت : 
			الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان
الصالح سبورت :
الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان


الصالح سبورت :
الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان

أهلًا بك، كيف تفسر الألعاب الإلكترونية العالم؟ هل هي مجرد وسيلة للترفيه، أم تحمل داخلها رؤىً اجتماعيةً عميقة؟ وهل يمكن لهذه الألعاب أن تكون مرآةً تعكس قيمنا، وصراعاتنا الاقتصادية والفلسفية، وحتى مخاوفنا كبشر؟ أم أنها مجرد أداةٍ تعيد تشكيل فهمنا للعالم؟ حسنًا، هذه القصة غريبة، غريبة حتى مقارنة بما تقرؤه هنا عادة، بل وربما تكون بوابة تُفضي إلى عمق إنسانيٍّ مختلف، ليست مجرد سردٍ لأحداثٍ طارئة أو شخصياتٍ عابرة، مطلقًا؛ بل هي مرآة تعكس حالة الإنسانية بأكملها، وبكل ما تحمله من تناقضاتٍ، وصراعاتٍ، وأحلامٍ، وخيبات، هي قصةٌ تلامس جوهر وجودنا، وتُذكّرنا بأن كل شئ مهما بدا سطحيا وتافهًا، هو في الحقيقة جزءٌ لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية المعقدة.  

مقدمة طويلة ولابد منها

من وجهة نظر العديد من المفكرين، تُعتبر الثورة الصناعية وما تلاها من أحداثٍ وتطوراتٍ المدخل الأمثل لفهم أي ظاهرةٍ اجتماعيةٍ تحدث في عصرنا الحالي، فقد أدت هذه الثورة إلى استقطابٍ حادٍّ في المجتمع، وصنعت تحوّلًا جذريًا في شكل وهوية وكينونة الطبقات الاجتماعية، التي لم تعد مقتصرة  على فئتي السادة والفلاحين، بل أصبحت أكثر تعقيدًا وتركيبًا نتيجةً للتغيرات العميقة في فلسفة العمل وهيكليته، كما شهدت تراتبية قطاعات الإنتاج تحولًا عنيفًا في مساهمتها الاقتصادية، مما أثر بشكلٍ كبيرٍ على البنية الاجتماعية والاقتصادية للعالم. 


بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا مع نهاية القرن الثامن عشر، كنتيجةٍ مباشرةٍ لاكتشاف الآلة البخارية، فقبل هذا الاكتشاف، كانت قطاعات الإنتاج تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على قوة المياه في تشغيل الآلات والمصانع، وهنا يطرح السؤال نفسه: ما الذي دفع الإنسان إلى صناعة أول آلة شبه بخارية في التاريخ؟ حسنًا، كان الهدف الرئيسي من اختراع هذه الآلة هو مساعدة عمال مناجم القصدير في بريطانيا على إنجاز أعمالهم بشكلٍ أسرع، وبالتالي إنجاز الأعمال بجهد أقل وجودة أفضل، بمعنى آخر، لقد صُممت الآلة في الأساس لتسريع وتيرة العمل، مما يتيح للعمال الحصول على فترات راحةٍ أطول، لإنعاش الغريزة الإنسانية في الراحة والتأمل والتنعم ببعض الحياة بعيدًا عن ضغوطات العمل.

ومع اقتران كل ذلك بالثورة الفرنسية، ثورة العمال الأولى في التاريخ، ثم التغيرات الاجتماعية التي أعقبت التحول من الملكية المطلقة، إلى النظام الجمهوري، حيث أصبح الحكم للشعب أو للأغلبية الساحقة منه، ارتفعت آمال الناس في عيش حياةٍ كريمةٍ خالية من القمع والديكتاتورية، كما تطلعوا إلى حياةٍ سهلةٍ ومريحةٍ تخلو من الشقاء والمعاناة والإستغلال، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل حققنا هذه الآمال؟ قطعًا لا؛ فكيف إذن حدث كل ذلك؟ وكيف انتقلنا من مرحلةٍ كانت فيها الآلة تُصنع لخدمة البشر، إلى مرحلةٍ أصبحت فيها الآلة موجودةً قبل البشر، بل وتحوّلت إلى أداةٍ تستعبدهم؟ وكيف أصبح البشر يعملون لخدمة الآلة بدلًا من أن تعمل الآلة لخدمتهم؟ كيف تحوّل الحلم بحياةٍ سهلةٍ ومريحةٍ إلى واقعٍ مليءٍ بالتعقيدات؟ 

أحد أبرز المفكرين الذين لاحظوا هذا التضارب منذ مراحله الأولى هو المفكر والفيلسوف الألماني كارل ماركس، الذي تناول هذه القضية في كتابه الأول “العمل المأجور ورأس المال”، الذي صدر عام 1847، أي بعد قرنٍ تقريبًا من بداية نمط الإنتاج الجديد الذي أفرزته الثورة الصناعية، في ذلك الوقت، كانت الأمور لا تزال مشوشةً وغير واضحة المعالم، لكن المسار العام كان يشير إلى وجود تضاربٍ كبيرٍ بين مصالح الرأسمالي، صاحب الآلة الجديدة، ومصالح العامل الذي كان من المفترض أن تكون الآلة أداةً لمساعدته، ولكن كيف يحدث هذا التضارب؟  

حسنًا، من وجهة نظر ماركس فالسبب يعود إلى طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، حيث يسعى الرأسمالي إلى تعظيم أرباحه من خلال زيادة الإنتاج وتقليل التكاليف، بما في ذلك تكاليف العمالة، وفي المقابل، يعتمد العامل على عمله كمصدرٍ وحيدٍ للدخل، مما يجعله في موقفٍ ضعيفٍ أمام صاحب العمل، وهكذا، بدلًا من أن تكون الآلة أداةً لتخفيف العبء عن العامل وتحسين ظروفه، تحوّلت إلى وسيلةٍ لاستغلاله، حيث أصبح العامل مجرد جزءٍ من عملية الإنتاج، يُستبدل بسهولةٍ إذا ما تعطّل أو طالب بحقوقه، وهذا التضارب بين مصالح الرأسمالي والعامل هو جوهر الصراع الطبقي، المحرك الرئيسي للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في النظام الرأسمالي، فبينما يسعى الرأسمالي إلى زيادة أرباحه، يكافح العامل من أجل تحسين ظروف عمله والحصول على حصةٍ عادلةٍ من ثمار هذا الإنتاج، وهنا بإمكاننا أن نسأل: لماذا يحدث التضارب أصلًا؟  

ببساطة لأن الآلة تنمي رأس المال بسرعة، والنمو السريع في رأس المال يقابله نموٌ سريعٌ في الربح، والربح لا يمكن أن ينمو بسرعة إلا إذا انخفض سعر العمل (أي الأجور)، فإذا ارتفعت الأجور بنسبة 5% خلال فترات الانتعاش الاقتصادي، بينما ارتفع ربح الرأسمالي بنسبة 30%، فإن الهوة الاجتماعية بين العامل والرأسمالي ستتسع في نفس الوقت، وبالتالي، يزداد سيطرة رأس المال على العمل، وتتعمق تبعية العمل لرأس المال، بمعنى آخر، حتى في أفضل حالات العامل، عندما يحصل على زيادة في الأجر بنسبة 20% مثلًا، فإن هذه الزيادة قد تحسن من دخله بشكلٍ ظاهري، لكنها لن تقلل من الفجوة بينه وبين صاحب العمل، لماذا؟ لأن صاحب العمل، إذا كان يكسب 6 جنيهات كل ساعة بفضل عملك، فإن أرباحه يجب أن تزيد بمقدار 7000 جنيها على الأقل، ببساطة يحدث التضارب بسبب وجود النظام الرأسمالي نفسه، ووجود فرد وحيد متحكم في كل المقدرات. 

وهكذا، فإن العامل لم يرتقِ اجتماعيًّا كما قد يظن، بل على العكس، قد يتراجع في السلم الاجتماعي حتى بعد حصوله على الزيادة، ولكن هذا لا يعني أن الرأسمالي يريد يجعلك مُفلسًا تمامًا، وهذا واضح من خلال زيادة الأجور أحيانًا، لكنه فقط يريد أن يبقيك دائمًا في حالة احتياج، ووفقًا لماركس أيضًا في كتابه “رأس المال”، فالبشر لا يستطيعون العيش وإشباع احتياجاتهم الأساسية إلا من خلال العمل،  وبما أن هذا أمرٌ طبيعي، تظهر طبقةٌ مستغلةٌ تعيش على عمل الآخرين، وتُظهر لهم مدى الرفاهية والمتعة التي تتمتع بها، حتى يظلوا يعملون طوال حياتهم سعيًا للوصول إلى هذا النمط المعيشي، وبما أن زيادة الراتب تعني هبوطك في السلم الإجتماعي، فهذا يعني أنك كلما اقتربت خطوةً من تحقيق بعض التقدم، ستكتشف أن الفجوة بينك وبين الرأسمالي قد ازدادت، مما يدفعك إلى العمل أكثر والسعي للترقي أكثر، في حلقةٍ مفرغةٍ لا تنتهي. 

هذه الديناميكية تُظهر كيف أن النظام الرأسمالي، رغم تحسينه لبعض جوانب حياة العمال في ظاهر الأمر، يعمل في العمق على تعميق التبعية وزيادة الفجوة الاجتماعية،  وهذا بالضبط ما يربط بين أفكار ماركس وما نناقشه هنا: كيف تحولت الآلة من أداةٍ لخدمة البشر إلى أداة استعبادهم، وكيف أصبحت التكنولوجيا وسيلةً لتعزيز هذه التبعية بدلًا من أن تكون أداةً لتحرير الإنسان؟ 

مقدمة قصيرة ولابد منها 

“الرأسمالية تحول كل شيء إلى سلعة، حتى الدين والفن والأدب، وتسلب منه قداسته.” 

كارل ماركس.

كل هذه التحولات جعلت ماركس، ومن بعده لينين في كتابه “الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية”، يجنحان لفكرة أن كل شيءٍ حولنا قد تحول إلى سلعةٍ بسيطة، يتحكم فيها شخصٌ واحد أو مجموعةٌ صغيرة، هذا التحول لم يبدأ مع عصر السوشيال ميديا، بل ظهر في عصورٍ سابقة، حيث بدأت الرأسمالية في تسليع كل جوانب الحياة، بما في ذلك القيم الثقافية والروحية، حيث لم يعد الرأسمالي يكتفي فقط بإظهار ثرائه أو امتيازاته، بل أصبح يعرضها بطريقةٍ مُنمقةٍ ومُغرية، فلم يعد يقول لك فقط إنه يعيش في فيلا فاخرة على الساحل، بل يُظهر لك ذلك من خلال “ريلز” إنستجرام وحسابات التواصل الاجتماعي المختلفة، وهو لا يصور نفسه فقط، بل يعرض كل ما يمتلكه: من سيارات فاخرة إلى ساعاتٍ ثمينة، ومن مكاتب فخمة إلى كراسي مصممة بإتقان، وحتى الأحذية والحقائب والساعات الفاخرة. 

هذا العرض المستمر للرفاهية والممتلكات يخلق لدى الإنسان شعورًا دائمًا بالاحتياج، بل وسلع السعادة نفسها، وجعلها مرتبطة أكثر بالشراء، حيث يرى الإنسان نفسه إنسانًا سعيدًا إلا إذا قارن نفسه بهذا النمط المعيشي الفاخر، وهكذا، يزداد الضغط على الفرد (العامل) ليعمل أكثر وينفق أكثر في محاولةٍ للوصول إلى هذا المستوى من الحياة، حتى لو كان ذلك على حساب راحته أو سعادته الحقيقية، وهذه الديناميكية تعكس كيف أن الرأسمالية، من خلال أدوات مثل السوشيال ميديا، تعمل على تعزيز الشعور بالاحتياج والتبعية، مما يجعل الفرد يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من العمل والاستهلاك، دون أن يدرك أنه قد يكون ضحيةً لنظامٍ يُحوّل كل شيءٍ حوله إلى سلعةٍ قابلةٍ للبيع والشراء، حسنًا ما هو أبرز مظاهر التسليع في عصرنا الحالي؟ حسنًا، كما توقعت بالضبط؛ الترفيه، أو ما يعرف باسم “صناعة الترفيه”، حتى الترفيه أصبح سلعة تباع وتشترى. 

كيف بدأت صناعة ألعاب الفيديو؟

واحدة من أهم السلع التي أنتجتها الرأسمالية الحديثة هي صناعة الترفيه، والتي تُعد من أبرز ركائز الاقتصاد العالمي اليوم،  ثم من بين أهم أشكال الترفيه في عصرنا الحالي تأتي ألعاب الفيديو، التي تساهم بأكثر من 90 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي وحده، وهذا الرقم الضخم يدفعنا قطعًا إلى النظر داخل هذه الصناعة من زاويةٍ مختلفةٍ بعض الشيء، زاوية قد تبدو جديدةً لكنها في الحقيقة تكررت ملايين المرات عبر التاريخ، فألعاب الفيديو، التي نراها اليوم كظاهرةٍ عالميةٍ ضخمة، بدأت بسيطةً جدًّا، في منتصف القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1940، أي بعد قرننين تقريبًا من الثورة الصناعية الأولى، حيث ظهرت أولى بوادر هذه الصناعة عندما أطلق الدكتور إدوارد أولر كوندون أول جهاز مخصص للألعاب في معرضٍ بمدينة نيويورك. 

كان الجهاز بسيطًا للغاية، ويعمل بلعبةٍ واحدةٍ فقط تُسمى “نيماترون”، وعلى الرغم من أن الجهاز كان غير مريحٍ في استخدامه، ورسوماته بدائيةً للغاية، إلا أنه استطاع أن يجذب ما يقرب من 50 ألف شخص خلال فترة عرضه التي استمرت ستة أشهر. هذه البداية المتواضعة لألعاب الفيديو تُظهر كيف أن الترفيه، حتى في أبسط أشكاله، يمكن أن يكون قوةً جاذبةً وقادرةً على خلق تفاعلٍ جماهيريٍ كبير. ومع مرور الوقت، تطورت هذه الصناعة لتصبح واحدةً من أكثر الصناعات ربحيةً وتأثيرًا في العالم، حيث تحوّلت من مجرد أداةٍ للتسلية إلى ظاهرةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ كبرى، تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من حياة الملايين حول العالم. 

لكن هذا التطور لم يأتِ من فراغ، بل كان نتاجًا لسلسلةٍ من التحولات التكنولوجية والاجتماعية التي جعلت من ألعاب الفيديو سلعةً رئيسيةً في سوق الترفيه العالمي، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: كيف تحولت هذه الألعاب من مجرد وسيلةٍ بسيطةٍ للتسلية إلى صناعةٍ عملاقةٍ تُحرك الاقتصاد وتُشكّل وعي الأجيال؟ حسنًا، عندما بدأ العالم في الدخول إلى عالم الألعاب بشكل قوي، اندلعت للأسف الشديد، حرب عالمية ثانية، استمرت قرابة خمس سنوات وامتصت الاقتصاد العالمي بأكمله لصالح التسلح والصناعات الحربية.

نتيجة لذلك، توقفت أي محاولات جادة لتطوير ألعاب الفيديو حتى عام 1950، عندما قام النمساوي جوزيف كيتس بإنشاء أول نظام يسمح للاعبين باللعب ضد برنامج ذكاء اصطناعي، أو ضد الكمبيوتر بمعنى أدق، وعلى الرغم من أن الجهاز تعطل بعد أسبوعين فقط بسبب مشاكل تقنية كبيرة، إلا أنه كان دليلًا على أن العالم يسير في المسار الصحيح نحو تطوير ألعاب الفيديو، وفي نفس العام، ظهر جهاز حاسوب آخر يُسمى “سيمون”، من تطوير إدموند بيركلي، كان الجهاز بسيطًا جدًّا ويُركب يدويًّا، لكنه كان دليلًا آخر على أن التكنولوجيا كانت تتجه نحو إنشاء ألعاب تفاعلية يمكن أن تكون جزءًا من حياة الناس اليومية. 

كل هذه المحاولات كانت مهمة وقوية، لكن أول لعبة فيديو حقيقية ظهرت في عام 1967، وكانت من تطوير المخترع الألماني الأمريكي رالف باير، الذي اشتهر باختراعه الذي أطلق عليه اسم “الصندوق البني”، هذا الجهاز أحدث ثورةً في عالم الألعاب لأنه كان يحتوي على عددٍ كبيرٍ من الألعاب، مثل تنس الطاولة والداما، وكان يمكن توصيله بجهاز تلفزيون لتحسين جودة الصورة وزيادة متعة اللعب، وبفضل هذه الميزات، بِيعت حقوق “الصندوق البني” لشركة “Magnavox”، وهي شركة أمريكية متخصصة في الأجهزة المنزلية، حيث استمرت في العمل مع رالف باير لتطوير الجهاز، حتى وصلنا إلى عام 1972، عندما أطلق أول جهاز ألعاب فيديو منزلي تحت اسم “Magnavox Odyssey”،  هذا الجهاز قدم أول لعبة فيديو من نوع إطلاق النار، وكانت له مكانة خاصة في تاريخ الألعاب، حيث أن المطرب الشهير فرانك سيناترا كان المتحدث الرسمي باسم الجهاز، مما جعله أول تميمة أو شخصية شهيرة ترتبط بألعاب الفيديو. 

هذه المراحل المبكرة تُظهر كيف تطورت ألعاب الفيديو من مجرد تجارب بسيطة إلى صناعةٍ قادرةٍ على جذب الجماهير وإحداث ثورةٍ في عالم الترفيه،  ومن هنا بدأت رحلة ألعاب الفيديو تحت قيادة شركة واحدة ألا وهي “Magnavox”، ولكن لأن السوق الحر يبدأ عادةً بشركة واحدة فقط محتكرة للسلعة، ثم يجمع المنافسين بسرعة كبيرة، قبل أن يتحول إلى مرحلة تكسير العظام بين الشركات المتنافسة، ثم حالة “الكبير يأكل الصغير”، ثم ينتهي عادةً كما بدأ باحتكار عدد قليل من الشركات، أو شركة واحدة فقط، للسوق بأكمله، ولكنه احتكار ليس دائم، إذ تتزحزح مكانة تلك الشركة بعد فترة غير معلومة، وتعود الدائرة بنفس الشكل مرةً أخرى، (كما تنبأ كارل ماركس في المجلد الأول من رأس المال) فقد ظهرت في نفس العام (1972) شركة منافسة قوية أخرى، هذه الشركة كانت نتاج رؤية شخص آخر هام جدًا ألا وهو نولان بوشنل، الذي لاحظ أن ألعاب الفيديو لديها إمكانات هائلة لجني الأرباح، خاصة في أماكن الترفيه مثل مدن الملاهي.

ولذلك قرر بوشنل الاستدانة بمبلغ 500 جنيه إسترليني، وبالتعاون مع شريكه التجاري تيد دابني، أسس شركة “أتاري” في مدينة سانتا كلارا، كاليفورنيا، وكانت تقوم على فكرة بسيطة جدًا لكنها عبقرية: تطوير لعبة مشابهة للعبة تنس الطاولة التي ابتكرها رالف باير، ولكن مع إضافة بعض المؤثرات الصوتية وتحسينات أخرى، مثل تسجيل الأهداف وتسريع حركة الكرة، وهكذا، وُلدت لعبة “بونغ”، التي حققت نجاحًا ساحقًا وغير مسبوق، وهذا النجاح دفع الشركة إلى التوسع بسرعة كبيرة، حيث بدأت في توظيف موظفين جدد بمعدل مرتفع، حتى وإن كانوا يفتقرون إلى الخبرة في مجال الهندسة أو التكنولوجيا، ومع ذلك، كان هناك تعلم سريع وتكيف مع متطلبات العمل، مما ساعد الشركة على مواصلة النمو. 

النجاح الذي حققته أتاري فاق كل التوقعات، وأصبحت “بونغ” واحدة من أكثر الألعاب شعبية في ذلك الوقت، مما وضع الشركة على الخريطة كواحدة من أهم الشركات الرائدة في صناعة ألعاب الفيديو، لدرجة أن نولان بوشنل، مؤسس شركة أتاري، قال في فيلم وثائقي عام 2004 بعنوان “Video Game Invasion: The History of a Global Obsession” نصًّا: “أن المكافآت كانت تأتي في براميل البيرة، والاجتماعات كانت تُعقد في أحواض المياه الساخنة.” هذه البيئة غير التقليدية والمليئة بالحرية والإبداع كانت جزءًا من سر نجاح الشركة، وقد أكد ديفيد كرين، مصمم الألعاب السابق في أتاري، أن هذه البيئة كانت السبب الرئيسي لكل النجاحات التي حققتها الشركة، حيث قال في نفس الوثائقي: “لا يمكنك أن تنظر إلى الساعة وتخرج بشيء إبداعي”، بمعنى أن الإبداع يحتاج إلى مساحة من الحرية والمرونة، بعيدًا عن القيود الصارمة التي قد تُعيق التفكير الخلاق. مممم؛ تفكير خلاق، توسع سريع لشركتين، وأرباح أكثر، حسنًا، تلك كانت اللحظة المناسبة لمرحلة تكسير العظام التي تحدث عنها ماركس.

نعم؛ فمع تصاعد نجاح أتاري وانتشار لعبة “بونغ”، بدأت التوترات تتصاعد بينها وبين شركة Magnavox، صاحبة السبق في صناعة ألعاب الفيديو المنزلية، ووصل الأمر إلى المحاكم، حيث نشأ نزاعٌ حول أصل نظام تشغيل الألعاب وبراءات الاختراع المتعلقة بلعبة “بونغ”، ولكن لأن “المصالح تتصالح”، كما قال ماركس أيضًا، فقد توصل الطرفان في النهاية إلى تسويةٍ دفع بموجبها أتاري مبلغًا يقارب مليون دولار لشركة Magnavox، الغريب أن هذه التسوية لم توقف مسيرة أتاري، بل على العكس، كانت بمثابة دفعٍ جديدٍ للشركة لمواصلة الابتكار والتوسع، ودفعتها بكامل القوة إلى المرحلة الأخيرة ألا وهي مرحلة الاحتكار، ومع مرور الوقت، أصبحت أتاري رمزًا لصناعة ألعاب الفيديو، ليس فقط بسبب نجاحاتها التجارية، ولكن أيضًا بسبب الثقافة التي عملت خلالها، والمعتمدة على الحرية والإبداع والمرح. 

هذه الثقافة كانت بمثابة الوقود الذي دفع الشركة إلى تحقيق إنجازات غير مسبوقة، وأصبحت نموذجًا يُحتذى به في عالم التكنولوجيا والألعاب، ولكن لأن دوام الحال من المحال، والنظام الرأسمالي يحمل داخله جرثومة سقوطه بسبب تناقضاته الداخلية، كما شرح ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي، جاءت فترة الثمانينيات لتُعلن أن الدائرة الرأسمالية بدأت في الدوران مرةً أخرى، وذلك عن طريق صدمة كبيرة في عالم ألعاب الفيديو، تمثلت في الانهيار الكبير الذي ضرب سوق الألعاب الإلكترونية في عام 1983، والمعروف باسم “أزمة ألعاب الفيديو”.

فبعد أن بلغت إيرادات الصناعة ذروتها في عام 1983 بحوالي 3.2 مليار دولار، انخفضت الإيرادات بشكلٍ كارثي إلى حوالي 100 مليون دولار فقط بحلول عام 1985، بنسبة انخفاضٍ قدرها 97%، هذا الانهيار المفاجئ كان نتيجةً لعدة عوامل، منها فيض الألعاب الرديئة الذي غزا السوق نتيجة للكسل الناتج عن زيادة الأرباح، وأيضًا تشبع السوق بأجهزة وألعاب لم تكن تلبي توقعات المستهلكين. 

الغريب؛ أن قبل هذه الأزمة مباشرةً، مرت “أتاري” بتحولاتٍ كبيرة ضاعفت من خسائرها؛ ففي عام 1976، بيعت لـ شركة “وارنر كوميونيكيشنز” مقابل 28 مليون دولار، مع بقاء نولان بوشنل كرئيسٍ لمجلس الإدارة، كان الهدف من هذه الصفقة هو تمويل إطلاق جهاز أتاري 2600، الذي لعب دورًا محوريًا في انتشار ألعاب الفيديو المنزلية، ومع ذلك، وبعد النجاح الأولي، بدأت الأمور تتدهور، وفشلت العديد من منتجات أتاري، وخاصة لعبة “E.T. the Extra-Terrestrial”، واحدة من أسوأ الألعاب في التاريخ، ما أدى إلى خسائر فادحة، لتتخلى الشركة عن بوشنل مقابل غريمه التقليدي راي كاسار، لكن حتى هذا التغيير لم يُنقذ الشركة من الانهيار، حيث انهارت الصناعة بأكملها مرةً أخرى في 1983. 

خطوة للأمام 

هذه الأزمة كانت بمثابة جرس إنذار للصناعة، حيث أظهرت أن النمو السريع والجشع سيؤدي إلى كارثة حتمية، وأن الرأسمالية، تحمل في داخلها تناقضاتٍ قد تؤدي إلى أزماتٍ دورية، وهو ما يتطلب دائمًا إعادة تقييم وابتكار للحفاظ على الاستمرارية، وهو ما حدث فعلًا؛ إذ اتخذت الشركات خطوة للأمام واستغلت الأوضاع التكنولوجية الجديدة، وظهور الانترنت، لتبحث لها عن مخرج من تلك الأزمة، وكانت البداية مع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية، مثل كومودور 64 وكمبيوتر آي بي إم،  هذه الأجهزة نقلت ألعاب الفيديو إلى المنازل والمدارس بشكلٍ أوسع، وقدمت تجارب لعب أكثر تعقيدًا مقارنةً بما كان متاحًا من قبل، ومع إدخال أشكالٍ أولية من الرسومات الثنائية الأبعاد، ظهرت ألعابٌ مثل “سوبر ماريو بروس”، لتضع معايير جديدة لعمق وتعقيد اللعب والسرد القصصي في ألعاب الفيديو. 

ومع التعافي التدريجي من آثار أزمة 1983، بدأت شركات يابانية مثل سيجا ونينتندو في تقديم أجهزة ومنصات لعب بجودة عالية وأسعار تنافسية، مما ساعدها على كسب قلوب الجماهير، ففي التسعينيات، قدمت سيجا منصات لعب مثل “سيجا جينيسيس” (Sega Genesis) التي كانت تعتمد على معالجات 16-بت، مما سمح بتجارب لعب أكثر تطورًا، وفي المقابل، قدمت نينتندو نظام “سوبر نينتندو للترفيه” (SNES)، الذي حقق نجاحًا كبيرًا بفضل ألعاب مثل “سوبر ماريو وورلد” (Super Mario World) و(The Legend of Zelda)، كما شهدت تلك الفترة ظهور شخصيات ألعاب شهيرة مثل “سونيك”، الذي أصبح رمزًا لشركة سيجا، ومنافسًا شرسًا لـ سوبر ماريو.

هذه الشخصيات لم تكن مجرد أبطال لألعاب، بل أصبحت أيقوناتٍ ثقافيةٍ تُشكّل جزءًا من ذاكرة جيلٍ كامل، وفي الوقت نفسه، كان تطور تكنولوجيا الكمبيوتر يمهّد الطريق لظهور الرسومات ثلاثية الأبعاد بشكلها البدائي، ألعاب مثل “Wolfenstein” و”Doom” أحدثت ثورةً في عالم الألعاب من خلال تقديم بيئات غامرة وتجارب لعب تكسر “الحائط الرابع”، وتجعل اللاعب يعيش داخل أجواء اللعبة بشكلٍ كامل، وهو ما جعلها نقلةً نوعيةً في كيفية تفاعل اللاعبين مع العالم الافتراضي. 

“كرة القدم بنكهة الريلز”.. هل انتهى عصر الـ 90 دقيقة؟

 هذه التطورات جعلت من التسعينيات عصرًا ذهبيًّا لألعاب الفيديو، حيث تمتزج الإبداع الفني مع التقدم التكنولوجي لتقديم تجارب لعب غير مسبوقة. ومع استمرار الصناعة في النمو، أصبحت ألعاب الفيديو جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العالمية، ووسيلةً للتعبير الفني والاجتماعي، بالإضافة إلى كونها مصدرًا للترفيه والتسلية، بل وأصبحت رياضة معترف بها عالميًا، وبالوصول إلى عام 2024، أصبحت الألعاب الإلكترونية ظاهرةً عالميةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فجوائز كأس العالم للألعاب الإلكترونية في الرياض، على سبيل المثال، وصلت إلى 60 مليون دولار، كما أصبحت البطولات تُنظم على مستوى دولي، برعاية مشتركة من شركات كبرى مثل ماستركارد، وباتت تجذب نجوم كرة القدم أنفسهم للمشاركة أو الحضور. 

حتى إن تصميم الكأس الخاص بالبطولة تصنعه شركة “توماس لايت”، وهي نفس الشركة التي تصنع كأس العالم لكرة القدم، وكأس الاتحاد الإنجليزي، وكأس العالم للرغبي، وكأس العالم للكريكت، وحتى كأس الملك في السعودية، كل هذه التفاصيل تُظهر أن الرياضات الإلكترونية باتت تُعامل بنفس مستوى الرياضات التقليدية، بل وتحولت إلى سلعة تُنفق عليها المليارات، وهو ما يُثير تساؤلاتٍ عميقةً حول طبيعة هذه الظاهرة، فما كان في الماضي مجرد وسيلة للترفيه أو الهروب من الواقع، أصبح الآن مجالًا ضاغطًا مليئًا بالمنافسة الشرسة، والأمراض النفسية، والمشاكل الاجتماعية، وبعدما كانت نشاطًا ترفيهيًّا فقط، تحولت إلى مجال استثماري ضخم، تُضخ فيه مليارات الدولارات، ويُشارك فيه مستثمرون كبار، وموظفون، ورعاة، ونجومٌ يبحثون عن الشهرة والثروة، وهو ما يفتح الباب للتساؤل: هل حدث كل ذلك بسبب ذكاء المستثمرين فقط؛ بالطبع لا؛ إذن لماذا يُقبل العالم على الألعاب الإلكترونية بهذا الشكل؟ 

خطوة للخلف

بحسب ما ذكره ماركس في المجلد الأول من رأس المال، فالرأسمالي يعرف نقاط ضعفك بشكل جيد للغاية، ويلعب عليها بكل ما أوتي من قوة حتى تظل مُقبلًا على منتجه الخاص، وهنا يظهر سؤال آخر:  ما هي نقاط الضعف التي يلعب عليها المستثمر ليظل الجمهور مقبلًا على الألعاب الإلكترونية؟ حسنًا، (الإدمان)، بحسب ما ذكرته الباحثة في علم النفس فيكتوريا دانكلي، في مقالها المنشور على موقع “سايكولوجي توداي” بعنوان “هذا هو دماغ طفلك أثناء لعب ألعاب الفيديو”، أن الألعاب تدخل الأطفال في حالة التحفيز الشديد لجهازهم العصبي، مما يساهم في تغيير سلوكهم، ولكن كيف يحدث هذا بالضبط؟ 

عندما يلعب الطفل ألعاب الفيديو، يتعرض دماغه لكميات كبيرة من المنبهات البصرية والسمعية التي تُحفز إفراز الدوبامين، وهي مادة كيميائية في الدماغ ترتبط بالشعور بالمتعة والمكافأة،  هذا التحفيز المستمر يجعل الطفل يشعر بالنشوة والإثارة، مما يدفعه إلى الرغبة في الاستمرار في اللعب لفترات أطول. لكن المشكلة تكمن في أن هذا التحفيز الشديد والمستمر يمكن أن يؤدي إلى إرهاق الجهاز العصبي، خاصة عند الأطفال الذين تكون أدمغتهم في مرحلة النمو، فبدلًا من أن تكون الألعاب وسيلةً للترفيه، تتحول إلى مصدرٍ للضغط العصبي، مما قد يؤدي إلى تغييرات في السلوك والمزاج. 

على سبيل المثال، قد يصبح الطفل أكثر عصبيةً أو قلقًا بعد الانتهاء من اللعب، أو قد يواجه صعوبة في التركيز على المهام اليومية مثل الدراسة أو التفاعل الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي الإفراط في اللعب إلى اضطرابات النوم، حيث يصبح من الصعب على الطفل التوقف عن التفكير في اللعبة حتى بعد إغلاق الجهاز، كما أشارت دانكلي إلى أن الألعاب الإلكترونية، خاصة تلك التي تعتمد على الإثارة السريعة والتنافس الشديد، يمكن أن تُضعف قدرة الطفل على تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية. فبدلًا من قضاء الوقت في التفاعل مع الآخرين أو ممارسة أنشطة بدنية، يقضي الطفل ساعاتٍ طويلةً في عالم افتراضي قد يعزله عن الواقع، وهو ما يؤدي إلى توتر شديد للغاية كنتيجة لحالة تعرف باسم “الهروب من النمر”. 

في العصور القديمة، كان البشر يعتمدون على القتال أو الهروب لحماية أنفسهم من الحيوانات المفترسة، ما يعني الاستجابة السريعة للتوتر كانت ضرورية للبقاء على قيد الحياة، أما اليوم، فما زلنا نحتاج إلى هذه الآلية في حالات الطوارئ، وحتى في حياتنا اليومية، حيث تساعدنا ردود الفعل الخفيفة للتوتر على إنجاز المهام، لكن المشكلة تكمن في أن تحمل ردود الفعل القتالية أو الهروبية بشكل متكرر، خاصة عندما لا يكون البقاء على قيد الحياة على المحك، يمكن أن يسبب ضررًا أكثر من نفعه، وهو ما يحدث بالضبط عندما يلعب الطفل ألعاب فيديو تنافسية تتطلب منه ردود فعل سريعة تشبه حالة القتال أو الهروب، حيث يواجه دماغه وجسمه صعوبة في العودة إلى حالة الهدوء بعد انتهاء اللعب، وهذا يؤدي إلى إجهاد مزمن، حيث لا يتم تفريغ الطاقة المتراكمة بشكلٍ طبيعي. 

وعندما يحدث الإجهاد المزمن، يتم توجيه تدفق الدم بعيدًا عن الفص الجبهي في الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن التفكير والتحكم في الانفعالات، نحو المناطق الأكثر بدائية في الدماغ التي ترتبط بالبقاء على قيد الحياة، هذا التحول يتسبب في ضعف الأداء مقارنةً بالأطفال الذين لا يتعرضون لنفس المؤثرات، وبما أن الأنظمة العصبية لدى الطفل تكون في طور النمو، تحدث هذه السلسلة من الأحداث بشكل أسرع بكثير مما تحدث لدى البالغين، ونتيجة لذلك، يبدأ الطفل الذي يعاني من التوتر المزمن في مصارعة العديد من التحديات، إذ لا يؤثر الإجهاد المزمن على القدرة على التركيز فقط، بل يؤدي أيضًا إلى صعوبات في إدارة المشاعر، قمع النبضات، اتباع التوجيهات، التسامح مع الإحباط، الوصول إلى الإبداع، والتفاعل مع الحياة اليومية.  

نعم؛ فهؤلاء الأطفال، وأثناء محاولتهم الحصول على التحفيز والنشوة التي توفرها الألعاب، يبحثون عن نفس شعور المتعة الذي يبحث عنه مدمنو المخدرات، حيث يصبح الطفل معتمدًا على التحفيز غير الطبيعي الذي توفره الألعاب، مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل النفسية والسلوكية، باختصار، الألعاب الإلكترونية، تتحول إلى مصدرٍ للتوتر المزمن والإجهاد العصبي، خاصة عند الأطفال الذين تكون أدمغتهم في مرحلة النمو، وهذا هو الإدمان الذي يستغله المستثمر، ويضغط عليه بكامل قوته، وقد نجح في ذلك بنسبة كبيرة، حيث أشارت دراسة  قام بها، أندرو فيشمان، الباحث في علم النفس، أن 60٪ من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 18 عامًا يكتبون على الإنترنت عن ألعاب الفيديو مرةً كل شهر تقريبًا.

ولأن العالم مدمن على اللعب، ولأن الرأسمالي يدفع في هذا الاتجاه، مع ازدياد الأموال وانتشار البطولات، فقد نشأ نوع من الالتزام، خاصةً وأن الألعاب الإلكترونية يمكن اعتبارها في النهاية عملاً مكتبيًّا، إذ  يؤدي الجلوس لفترات طويلة إلى فقدان العضلات غير المتحركة لقدرتها على حرق الدهون والسكر بكفاءة، مما قد يؤدي إلى ارتفاع نسبة الكوليسترول، وبالتالي زيادة خطر الإصابة بمرض السكري والعديد من أمراض القلب، بالإضافة إلى ذلك، فإن العضلات الحيوية مثل عضلات الساقين والأرداف والوركين والظهر تتأثر بشكل كبير، مما يزيد من الآلام والأوجاع، ويؤدي إلى الخمول والضعف العام في الجسم.

كما أن الجلوس لفترات طويلة يمكن أن يزيد من مستويات الكورتيزول (الهرمون الذي يتحكم في مستويات السكر في الدم وينظم عملية التمثيل الغذائي)، مما يزيد من نسبة التوتر أثناء اللعب. وكلما زاد التوتر، زادت الأخطاء، وكلما زادت الأخطاء، زاد التوتر مرة أخرى، في حلقة مفرغة لا تنتهي، وتغذي نفسها بنفسها، دائرة أراد لك الرأسمالي الأبيض أن تسقط فيها وفي فخها من أجل أن يجني هو الأرباح المتتالية. 

من بيب جوارديولا إلى أليكسا.. حان وقت استبدال المدربين بالذكاء الاصطناعي

الدائرة 

يعرّف عالم النفس جود (وهو مؤلف قاموس التربية) اللعب على أنه نشاطٌ موجّهٌ أو غير موجّه يقوم به الأطفال من أجل تحقيق التسلية والمتعة، وهذا يعني أن اللعب سلوكٌ فطريٌّ يلجأ إليه الشخص بحثًا عن البهجة، نحن بحاجة شديدة إلى اللعب، والتمتع، وقضاء وقت فراغ بلا ضغوط عمل، وهو ما يدركه الرأسمالي جيدًا، لذلك الأزمة ليست في اللعب، بل في تسليع اللعب؛ وهذا ما نحاول شرحه من خلال علم النفس ونظريات الفلاسفة والكلام العميق هذا: أن الحياة، في كثير من الأحيان، تكون صعبةً بما يكفي عادةً، ولذلك تدفع الإنسان إلى البحث عن مخرجٍ من خلال اللعب وصناعة عالم خيالي وافتراضي، وهذا ما وفره عالم الألعاب الإلكترونية بشكل كبير، حيث أصبحت الألعاب تعتمد على القصة والسيناريو أكثر من مجرد اللعب، فكل لعبة الآن لها قصة، وحوار، وسيناريو، ومهام مطلوبة، وتحديات، وشعور بالإنجاز، وحياة خيالية موازية مليئة بالنجاحات والسعادة، والتي قد تكون مفقودة في حياة الشخص الواقعية، وهذا ما يدفعه إلى اللجوء إلى عالم الألعاب، حتى وهو يعلم أن هناك مخاطر عديدة. 

 وتلك هي قصة الحياة بكل اختصار، ولذلك أيضًا، تبدو قصة الألعاب الإلكترونية مثل أي شئ في العالم، الآمال المحلقة في البداية، ثم السقوط في هوة عميقة بسبب ألاعيب الرأسمالية، وجهٌ لطيفٌ في البداية، ثم وجهٌ قبيحٌ يظهر دائمًا عندما يخضع أي شيء لسلطة رأس المال، فهذه ليست قصة الألعاب الإلكترونية وحدها، بل هي قصة الصناعة والزراعة وكرة القدم، بل والحضارة بشكل عام. فعندما الإنسان البدائي عندما اكتشف الزراعة لم يكن يتخيل أن المجتمعات ستذبح بعضها حرفيًّا من أجل السيطرة على أراضي الزراعة، وأن تلك النعمة العظيمة التي أدت إلى استقرار البشرية وظهور الحضارة، هي نفسها التي ستجعل الإنسان أكثر تعبًا ومشقةً، وأكثر عرضةً للمخاطر، وأقل تنوعًا في مصادر غذائه، كما قال يوفال نوح هراري في كتابه “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري”.

وأن نفس الشخص الذي كان يأمل في الاستقرار وعيش حياةٍ هادئةٍ مضمونة الغذاء، سيصبح في النهاية عبدًا لـ السلطان، أو الملك، أو المالك، أو الإقطاعي، الذي سيحول حياته إلى جحيمٍ مقابل فتاتٍ من الخبز، وفي النهاية، سيموت إما بسوء التغذية، أو بالتعذيب، أو بأمراض القلب، وأوجاع الساقين، والإدمان، هذا الانقلاب يتجلى بوضوح في قصة حكاها محمد نعيم في الصفحات الأولى من كتابه “تاريخ العصامية والجربعة”، نقلاً عن المفكر المصري الراحل سعد زهران، حيث كانت أم سعد، كما يروي، إقطاعية تمتلك عددًا من الفدادين في محافظة المنوفية. وكان سعد، وهو طفل، يسمع دائمًا منها عن كائن غامض اسمه “الفلاح”، لكنه لم يره قط. ولما سألها عن ماهية هذا الفلاح، أجابته نصًّا: 

“الفلاح هو إنسان محني الظهر، وجهه في الأرض يكاد يلامسها، يعمل في الغيط طوال النهار، ونادرًا ما يرى سيده. وإن رآه، فلن يرى من جسده سوى قدميه. فإذا أراد تقبيلها، قد يلكزه السيد بحذائه لكزة خفيفة كدليل على المداعبة، أو يرفسه رفسة نافرة تطلب منه الابتعاد.” انظر إذن إلى الإنسان الذي قرر أن يزرع الأرض، كيف بدأ، وكيف انتهى به الأمر، بدأ بحلم الاستقرار والوفرة، وانتهى به المطاف إلى الانحناء والذل، حيث تحول من سيدٍ للأرض إلى عبدٍ لها، ومن مالكٍ لثمارها إلى مجرد ظلٍّ يركض خلف فتات الخبز، هذه هي المفارقة المأساوية التي تكشف كيف يمكن أن تتحول النوايا الحسنة إلى أدواتٍ للقهر، وكيف يمكن أن تُسلب الحرية من تحت أقدام من كانوا يبحثون عنها، خاصة  وأن الاكتشافات التي من المفترض أن تحررنا وتجعل حياتنا أفضل، تتحول في ظل النظام الرأسمالي إلى أدواتٍ للاستغلال والقهر. 

كذلك، أول من اخترع لعبة إلكترونية، لم يكن بباله أن اختراعه سيُسود حياة العمال أكثر مما كانت عليه، ولم يكن يتخيل أنها ستُسبب كل هذه المشاكل، لقد صنعها ليستمتع بها الناس، لم يكن يفكر غالبًا إلا في الترفيه البسيط، والناس في البداية كانت تريد أن تلعب، لا أكثر ولا أقل، ولكن مع دخول رأس المال على الخط: تحول اللعب، إلى قصة إنسانية بائسة أخرى. 

الصالح سبورت :
الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان

الصالح سبورت :
الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان #الألعاب #الإلكترونية #عندما #يتحول #الترفيه #إلى #وسيلة #لاستعباد #الإنسان